كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}..
{إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}..
كما أن هذا الدرس يحمل تهديداً، لا خفاء في أنه يتضمن تعريضاً باليهود. وذلك في قوله تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}.. فحين يذكر قتل الأنبياء يتجه الذهن مباشرة إلى اليهود!
وكذلك النهي الوارد في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين..} إلخ. فالغالب أن المقصود به هم اليهود. وإن كان من الجائز أن يشمل المشركين أيضاً. فحتى هذا التاريخ كان بعض المسلمين لا يزالون يوالون أقاربهم من المشركين كما يوالون اليهود، فنهوا عن ذلك كله وحذروا هذا التحذير العنيف. سواء كان الأولياء من اليهود أو من المشركين. فكلهم سماهم {الكافرين}!
وظاهر أن قوله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين...} إلخ. تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود. وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة وجمع اليهود، وقال: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد: لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى في ذلك: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم..} إلى قوله: {فئة تقاتل في سبيل الله أي ببدر وأخرى كافرة}».
أخرجه أبو داود.
كذلك يبدو من التلقين الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم في آية: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.. أنه وإن كان هذا التلقين في صدد مناقشة حاضرة، إلا أنه تلقين عام شامل، ليواجه به النبي صلى الله عليه وسلم كل المخالفين له في العقيدة.
وظاهر من قوله تعالى: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} أن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذلك الحين لم يكن مأموراً بقتال أهل الكتاب، ولا بأخذ الجزية منهم، مما يرجح ما ذهبنا إليه من نزول هذه الآيات في وقت مبكر.
وهكذا نرى من طبيعة النصوص أنها مواجهة عامة غير مقيدة بمناسبة واحدة، هي مناسبة وفد نجران. وقد تكون هذه إحدى المناسبات التي نزلت هذه النصوص لمواجهتها، وهي المناسبات الكثيرة المكررة في الصراع بين الإسلام وخصومه المتعددين في الجزيرة.. وبخاصة اليهود في المدينة..
ثم يتضمن هذا الدرس الأول إيضاحات قوية لأسس التصور الإسلامي من ناحية العقيدة، وإلى جانبها إيضاحات قوية كذلك في طبيعة هذه العقيدة وآثارها في الحياة الواقعية. هذه الآثار الملازمة للإيمان بها. فهي عقيدة التوحيد لله. ومن ثم تجعل الدين هو الإسلام لله. ولا دين سواه.. الإسلام بمعنى الاستسلام والطاعة والاتباع. الاستسلام لأمره، والطاعة لشرعه، والاتباع لرسوله ومنهجه. فمن لم يستسلم ويطع ويتبع فليس بمسلم، ومن ثم فليس بصاحب دين يرضاه الله. فالله لا يرضى إلا الإسلام. والإسلام- كما قلنا- الاستسلام والطاعة والاتباع.. ومن ثم يرد التعجيب والتشهير بأهل الكتاب الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم {ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون}.. ويعتبر الإعراض عن تحكيم كتاب الله علامة الكفر التي تنفي دعوى الإيمان. الإيمان بالله على الإطلاق!
والمقطع الثاني في هذا الدرس يدور كله حول هذه الحقيقة الكبيرة..
فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة:
{ألم}..
هذه الأحرف المقطعة: ألفْ. لام. ميم. نختار في تفسيرها- على سبيل الترجيح لا الجزم- ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة: إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف؛ وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله... إلخ..
وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور- على سبيل الترجيح لا الجزم- يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه الإشارة في شتى السور. ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين...} إلخ.
فأما هنا في سورة (آل عمران) فتبدو مناسبة أخرى لهذه الإشارة.. هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو. وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب- المخاطبون في السورة- فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة.
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}..
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين. لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل!
هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمداً. والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها. والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف! والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه، وتضرعهم له، ومعرفتهم بصفاته تعالى:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}..
وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين: يهوداً أو نصارى. على اختلاف مللهم ونحلهم جميعاً. كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض. فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديداً كاملاً دقيقاً.
{الله لا إله إلا هو}..
فلا شريك له في الألوهية.. {الحي}.
الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته.. {القيوم}.. الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود؛ والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود. فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه.
وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد. ومفرق الطريق في الحياة والسلوك.
مفرق الطريق في التصور والاعتقاد. بين تفرد الله- سبحانه- بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية: سواء في ذلك تصورات المشركين- وقتها في الجزيرة- وتصورات اليهود والنصارى- وبخاصة تصورات النصارى.
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون: عزير ابن الله. كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم الكتاب المقدس يتضمن شيئاً كهذا. كما جاء في سفر التكوين: الإصحاح السادس.
فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم: إن الله ثالث ثلاثة. وقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم. واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله. واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله..
وقد جاء في كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف أرنولد، شيء عن هذه التصورات..
ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات؛ وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية.. وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها؛ وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد. لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين. بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة.. وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقانيم.. له كل الصفات الإلهية والبشرية ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة.
ففي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة.. لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام. ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء.
كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو كانون تايلور عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية: وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة.
أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها: عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام. وكان أقل عقائدهم انحرافاً عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة- ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد.. كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك..
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو. الحي الواحد الذي لا حي غيره. القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود..
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته، لابد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة. فلا يجد في ضميره أثراً لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته!
إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله. ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله. لا في شريعة أو نظام، ولا في أدب أو خلق. ولا في اقتصاد أو اجتماع. ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة، وما بعد الحياة.. أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار، ولا حدود لحرام أو حلال، ولا لخطإ أو صواب: في شرع أو نظام، في أدب أو خلق، وفي معاملة أو سلوك.. فكلها.. كلها.
إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي، وإليها التوجه، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام.
ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}..
ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية- لا لطبيعة الاعتقاد وحده- فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقاً من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم. التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة. من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة. والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه.
وعقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات. أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال:
{نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام}.